Admin المـديـر العـــام
عدد المساهمات : 799 نقاط : 1508 السٌّمعَة : 53 تاريخ الميلاد : 22/12/1994 تاريخ التسجيل : 11/10/2010 العمر : 29 المزاج : ماشي الحال
| موضوع: الهجرس يبلغكم السلام ... قصة جميلة للكاتب محمد الرفاعي ( قصيرة ) الأحد يونيو 12, 2011 5:35 pm | |
| الهجرس يبلغكم السلام
جاء غريب، ذات يوم إلي البلدة، التف الناس حوله، أجلسوه في السقيفة،وما إن أرخي خرجه بجوار مصطبة غفا عليها برهة.. واقتاد ما تيسر من طعام، أحضروه له علي عجل، كما رغب، قال لهم: الهجرس يبلغكم السلام. ذهل الناس. صمت الرسول طويلا خيل للناس أن دهرا طويلا قد مر، نسوا فيه رجلهم الغائب، ثم أكمل الرسول: معي رسالة أبغي إيصالها لأهله.
زوجته لم تقبل لحظة حقيقة ما قيل.. قالت للنسوة اللاتي تجمعن عندها صباح كل يوم في سقيفة الدار: لو رأيته مسجي أمامي، واغمضت عينيه، وكفنته بيدي، وأدخلته اللحد، وواريته التراب، ظلت موقنة أنه حي يرزق، كانت تقول منهية نقاشا لاينتهي مع النسوة: ربما يكون في ورطة، أو في سجن، أو ربما أقعده مرض، أو عذر، الغائب حتما عائد إلي أهله.
هرب من سياط السخرة.. أثناء حفر القناة، اختفي زمنا، تاه في مسالك الجبال الوعرة، وتسرب في عتمة دروب الوادي الرطبة. ظن الناس أنه قضي نحبه، فترحموا عليه في السر والعلن، ذاكرين سيرته العطرة: حدبه علي الضعفاء، والأرامل، وذوي العاهات، أهله لم ينصبوا له »خيمة عزاء«. واقتسموا فريقين، فريق صدق موته، وفريق آخر لم يصدق، وجميعهم لم يحاولوا البحث عنه، أو يتقصون أسباب موته، التي اختلف حولها الرواة، وناقلو خبره*.
زوجته كانت جالسة في سقيفة البيت، مازالت تقيم فيه وحدها،* منذ رحيل الزوج، رفضت ان تغلق باب بيتها ليلة، وأبت أن تبيت في بيت أهلها كانت تنفض غلة العيد بمساعدة جارات لها، وكانت تضاحكهن، وتروي لهن حكايات تجلب البهجة، وهن يأسون عليها، وفي حلقهن مرارة لاتنصهر.. ثمة حزن مقيم لايبرح القلب، يسايرونها في الحكي والضحك والمرارة، ويقتسمون معها القليل من البهجة*.
عصي خفيفة دقت باب البيت الموارب، قطعت سكون القيلولة.. العم في الخارج، يأذن في الدخول. رمي السلام علي الجالسات منهمكات في شغلهن، فضت يدها.. ناولت »الغربال للجالسة بجوارها.. ولحق عمها الذي دخل حجرة بجوار الباب. نسميها حجرة»المندرة، كما تحب أن يطلق عليها الغائب، منسقة دائما. وجيدة التهوية ورطبة، لها رائحة المسك - كما يحب الغائب - قبل أن يجلس عمها، نطق وجهه مبشرا، وتهلل بالفرح: الله ما خيب إحساسك مرة ياخديجة يابنت حي. الهجرس باعت لك مرسال، معه رسالة يبغي إبلاغها كأن زوجها فارقها هذا الصباح، وفي حضنها بات ليلة أمس، لم يغب عنها كل تلك السنوات.. فقط ابتسامتها اتسعت قليلا، ووجهها الأسمر تزين بالبهجة، وبشارة اليقين.
دخلت عليها عمتها العجوز، تستند علي عكازها، أطلقت زغرودة عالية صافية الروح، قتلتغول الصمت والترقب، توقفت النسوة عن تنقية الغلة، شلت أيديهن عن الغربلة والنقض، غبن لحظات عن الوعي. انتبهن وهن ملتفات حولها، وهي منهمكة في ارتداء ثوب الخروج. سبقها عمها بضع خطوات، كانت تسير بجوار عمتها، كانت هي مهرولة تسبقها بخطوات. لقوا الرسول أول البلدة، والناس ملتفة حوله، يثنونه عن الرحيل، ويحثونه علي المبيت ليلة معهم. حسم الغريب أمره، قال: محبتكم موصولة، معي أمانات أبغي إبلاغ أهلها. نظر إلي الوفد القادم من جهة البلدة. تأكد أنها المعنية بالأمانة، قال الرسول بصوت عميق واضح النبرة، لا ليس فيه ولاغموض: الهجرس يقرئك السلام. سكنت كل حركاتها، ساد صمت طويل، لم يسمع إلا شخللة ورق الشجر في الساحة المتربة،وهديل يمامة تنادي صغارها، تنامي في الحقول البعيدة أنين ساقية مازالت تدور
انتظر الجميع إضافة كلمة أو ايماءة.. كانوا راغبين في معرفة المزيد يطمئنهم عن ابنهم الغائب، غير أن الرجل اتجه صوب الجمل البارك بجوار أحراش صغيرة، يلوك شيئا في فمه، ورأسه يستطلع المكان حوله.. أمتطي الرسول سنام الجمل، فلم ينبسوا بكلمة، غير تبادل إيماءات الوداع.
سمع أهل البلدة، خلال الأيام والأسابيع والتي صارت أعواما، نتفا متناثرة من أحاديث عن ولدهم الغائب، عشرات الحكايات المكتملة، والمبتورة، والمتناقضة، والساذجة، والغريبة، تناقلها أولئك الجالسون علي المصاطب السمر، وأطراف الموالد والجالسون قيلولة يوم حار. التقط أهل البلدة حكايات أخري متعددة، تناقلها تجار الغلال والرحالة، والهائمون في ملكوت الله. أنبأتهم أن الهجرس بعد اختفائه عقب رفضه السخرة، ظهر فجأة يقاتل بجوارعرابي الكتف بمحاذاة الكتف الجواد يوازي خطو الجواد.. ظهر في كل المواقع التي صارت ساحة للمواجهة ظهر في طليعة الجيش في كفر الدوار وفي التل الكبير لما انكسر»عرابي ورجاله، لم ينكسر الهجرس. واختفي النديم لما اهتزت الشمعة قليلا. فلم يلجأ الهجرس إلي نفق العتمة أو الصمت.
قرر العودة إلي أهله. ويلملم ذاته المبعثرة في القري البعيدة، والكفور النائية، والعزب المتناثرة في الوادي، وعند مرابط رعاة الإبل في عمق الصحراء. قال الهجرس عشية دخول الغازي حاضرة البلاد خرجت من رحي المرارة وكسرة العظم وقصمه الظهر. قيل إنه عائد إلي قريته سيرا علي قدميه، سالكا طرقا وعرة ومدقات مأهولة بالقوافل ، هوام البشر، ينبه الناس الهائمين في حلقات الذكر، وحول أضرحة العارفين بالله، ويذكر الناس في قيل انه استقر بمقام شهد صرخته الاولي،يعلم الناس الحرف التي اتقنها، غرس النخل والشجر المثمر والمظلل، علي جانبي الطرقات، عمل حدادا، بناء، ونجارا للسواقي والمحاريث، قصاصا للأثر، جازا صوف الاغنام، صيادا للمسك، واليمام، والغزلان، والثعالب، ومطاردا البوم التي تنعق في صحراء القرية، ومقلما جريد النخل، وحوافر الخيل وجاسا للمواشي. دخل كل البيوت التي مر بها في طريق العودة، يعلم أصحابها ما تعلمه من خبرة الحياة التي اكتسبها في محنه الطويلة
مازالت تصل الي قريته نتف من اخباره، فهل وصلت أخبار القرية إليه؟ وهل وصل اليه أنين الساقية التي صنعها، التي مازالت تدور وترفع الماء الشحيح وتسقي بضع نخلات غرسها في صباه، مازالوا يقاومون الريح، ورمل الصحراء.
منقول | |
|